قسم 1, والت ويتمان، أغنية نفسي

توطئة

يفتتح الشاعر ويتمان قصيدته منظم حسب البحر البسيط الشائع الاستخدام في الشعر الانكليزي التقليدي، كما لو كان يريد ان يحاكي الملاحم الكلاسيكية قبل ان يقدم على ترك الاوزان الشعرية و يطلق العنان لأبياته لتتخذ الايقاع الذي يلائمها في لحظتها. وفي خروج اخر عن ما هو تقليدي، يقوم الشاعر باتخاذ ذاته ملهمة لقصيدته بدلا من استدعاء الملهمات الشعرية المعروفة التي لطالما دعاها شعراء الملاحم لتسمح لهم بالغناء عن ملاحم الحرب و الغضب و الرحلات الى عالم المجهول؛ لقد اختار ويتمان ان تكون ذاته ملهمته و ان تكون هي موضوع ملحمته. في الواقع القصيدة في جميع مقاطعها هي تسجيلا لذات الشاعر وهي تمتد وتتوسع الى العالم اجمع، لتضم خبرات الحياة بكل الوانها ومن ثم تعود لنقطة الانطلاق بعد ان يكتشف الشاعر انه يستطيع ان يضم بين ثنايا نفسه مختلف الخبرات المتنوعة التي سوف يواجهها في رحلاته حول العالم. شاعرنا سوف ينطلق في رحلة لتوسيع حدود الذات لكي تشمل اولا جميع مواطنيه الأمريكيين ومن ثم العالم اجمع و في النهاية تشمل الكون برمته. عندما نكتشف كم واسعة وكبيرة هي النفس البشرية، فما عسانا نفعل سوى ان نحتفي بها ثم نعود اليها مرارا و تكرارا.

خلال القصيدة يطرح ويتمان سؤالا: كم هي كبيرة تلك الذات الديمقراطية قبل ان تعود للتقلص و الانفصال الى جزئيات؛ ويبدو انه في كل مرة يصل الى الحد النهائي فأنه يعود مرة اخرى يتوسع الى حدود اخرى. في الابيات الثلاثة الاولى، يتخلى الشاعر عن شيئين يفرقان الناس عن بعضهم و يخلقان العداوة و الحرب: هذان العنصران هما المعتقد و الممتلكات. فيقول الشاعر "ما افترضه سوف تفترضونه\ فكل ذرة تنتمي اليكم تنتمي الي ايضا". في كل مستوى من مستوى وجودنا الانساني، نقوم بنقل و تبادل المواد و الافكار و المشاعر و العواطف. فالذرات التي تجمعت لتشكل لنا بقرة البارحة او نبتة اليوم ما هي الا ذرات جزء منا، كما هو حال ذرات الكون الخالدة التي تستمر في تفاعلها و حركتها التي لا تنتهي.

و بهذه الطريقة يقدم لنا الشاعر ويتمان شخصيتاه الرئيسيتان "انا" و "انتم". فالمقطع الاول من قصيدته يبدأ ب "انا" وينتهي ب "انتم" كما هو حال قصيدة "اغنية نفسي": فنحن نعيش انتقال الحياة من الانا التي تنتمي لويتمان الى "انتم" التي سوف تكون ملكنا نحن القراء. من الممكن ان نقرأ "انتم" المذكورة في القصيدة على انها تعني الامة الامريكية و العالم بأجمعه. ايضا من الممكن ان نقرأها بمعناها المفرد في مخاطبة القارئ المنفرد في اللحظة التي يقرأ فيها القصيدة. و يعتبر هذا الضمير من اصعب مفردات القصيدة ترجمة حيث ان ضمير المخاطب في اللغة الانكليزية يعد ضميرا مبهما : فذات الضمير قد يستخدم لمخاطبة اقرب الاشخاص وهو ذاته يستخدم في مخاطبة الغريب، و يستخدم في مخاطبة شخص واحد كما هو الحال في مخاطبة حشد من الناس. وهنا يستفزنا ويتمان في استخدامه لكل هذه المعاني المختلطة للضمير الذي يخاطبك انت فقط ، ذاك الشخص المنفرد و ايضا يخاطبكم انتم، الغرباء في العالم و الذين يتواجدون على نفس الكوكب. و على مترجمي القصيدة ان يحددوا أي المعاني سوف يستخدمون كلما مر عليهم الضمير: هل سيكون ذو معنى حميمي ام رسمي، او سيكون مفردا ام جمعا.

منشد هذه القصيدة يطوف و يلاحظ "وريقة عشب الصيف" ومن هنا تتولد القصيدة. بعد التفكير مليا بالأرض التي ولد عليها و التي فيها اجداده يدرك المتحدث بأن كل ورقة عشب هي اشارة لهذا التحول مثل العشب الذي ينمو من القبور حيث تحيا الذرات المنحلة من الموتى لتنمو مرة اخرى من الارض و تكون هي اغنيته ولسان حاله الذي سوف يتغنى بالماضي (عضو الكلام عنده حرفيا مكون من ذرات الارض التي يغني عنها وعليها). و هكذا فأن قصيدة اغنية نفسي تأخذنا في رحلة يصفها الشاعر بالرحلة الدائمة و هي الرحلة التي سوف تكون سردا هروبيا لجميع القراء الذي يحتاجون تحرير انفسهم من المعتقدات و الممتلكات المهيمنة التي لطالما منعت الذات من النمو، الذين يحتاجون الى تعليق المعتقدات و المدارس و المغامرة برحلة تأخذنا الى ما بعد الافكار البالية "للخير" و "الشر"، الرحلة التي سوف تسمح لنا بمواجهة "الطاقة الاصلية" للطبيعة الغير محدودة المتحررة من جميع القيود التي تعلمنا ان نطوقها بها.

—EF

اني احتفي بنفسي ، و أغني نفسي
وما سآخذ به ستأخذون به
وكل ذرّة فيّ ، هي ذرة فيكم
إني أطوّف ، وأدعو نفسي
اني اتكئ وأطوّف ، مطمئناً
أرقب ورقة جديدة للعشب الصيفي
اساني ، وكل ذرة في دمي ، هي من هذا التراب ، وهذا الهواء
لقد وُلدت من أبوين ولدَ أبواهما هنا ، ووِلدَ أبوا هذين هنا أيضاً .
إني الآن في السابعة و الثلاثين . موفور العافية
أبدأُ ، آملاً ألاّ أتوقف حتى الممات .
العقائد والمدارس معطّلة الى حين
متراجعة
مكتفي بما هي عليه
لكنها غير منسية أبداً
إني ألجأ الى الحسن والسيئ
وأتحدث أمام كل خطر
وأتآلف دون حسان والطاقة الأصيلة .
أحتفلُ بنفسي وأغنّي نفسي،
وما أفترضُه سوف تفترضونه،
لأنّ كلّ ذرةٍ تخصّني تخصّكم
أهيمُ وأدعو نفسي،
أتوقّف ثمّ أهيمُ على هواي، مراقباً وريقةً من عشب الصّيف.
لساني، وكل ذرة من دمي، تشكّلت من هذه الأرض، هذا الهواء،
ولدتُ هنا، لأبوين ولدا هنا، من أبوين ولدا هنا،
أنا، في السابعة والثلاثين الآن، موفور الصّحة، أبدأُ
راغباً أن لا أتوقّف حتى الممات.
المذاهبُ والمدارسُ معلّقة،
لقد انحسرت مؤقتاً، مكتفيةً بما هي عليه، لكنها لم تُنسَ أبداً،
وأنا أتوخّى الصالحَ أو الرديء، متحدثاً أمام كلّ خطر،
أتوخّى الطبيعةَ دون لجام بما تختزنه من طاقةٍ أصلية.

خاتمة

قيل بأن القصيدة هي تعبير عن الانتباه—لشخص ما او لشيء او لخبرة حياتية معينة او حتى لجزء من وجودنا تم استيعابه او تخيله او حتى تذكره—وفي المقطع الاول من قصيدة "اغنية نفسي" اعطانا ويتمان صورة الشاعر الذي انتبه و اهتم بالعالم ككل وهو يطوف، و يميل و يفتح روحه للعالم اجمع. ما يلاحظه لا يمكن ان يوضع بصورة ابسط، وريقة العشب وهنا تكمن جمال الصورة: فالقصيدة لا تسعى الى شيء سوى ان تحكي قصة الكون من الداخل و الخارج بدئا من مستوى الذرة في الدم و التربة و الهواء ثم الطوفان في كل مكان—هذه شهادة رجل قرر ان يوسع مدارك خيالنا.

لا يمكن هنا اختصار مدى تأثير قصيدة "اغنية نفسي" في الشعر الامريكي. فالشاعر يؤكد لنا انه "كل ذرة في، هي ذرة فيكم"—وهي الكلمات التي الهت الكثير من الشعراء ليصوروا لنا عوالم جديدة. و بالفعل من الصعب ان نتخيل الشاعر الامريكي ويليام كارلوس وليامز وهو يكتشف "المنتجات الامريكية النقية"، او ثيودور روثيك وهو يقوم "بالرحلة الطويلة خارج الذات" او الشاعر ألن غينسبرغ وهو يكتب قصيدة "عواء" بدون وجود والت ويتمان، هذا اذا تغاضينا عن اعمال الشاعر المعاصر سي كي وليامز او الشاعرة باتيان روجرز. فجميع الشعراء الأمريكيين يعيشون تحت مظلة هذا الشاعر الرائد الذي يستمر في نصحهم في اخر بيت من قصيدته "اغنية نفسي" بأن يبحثون عنه تحت خطى اقدامهم.

وفي ختام هذا التعليق لابد من الاشارة البسيطة للأشكال الشعرية التي يستخدمها والت ويتمان في قصيدته: ان الانتقال من البحر البسيط "الايامب الخماسي" الذي استخدمه في البيت الاول من اجل استخدام الشعر الحر متبعا طريقة ترانيم الدينية يشير الى تركه القواعد الشعرية الانكليزية التقليدية ، ليتجول بعيدا من عالم الشعر المعروف الى العالم المجهول. فهو يظل مسافرا الى المستقبل، من وريقة عشب الى ابعد نجمة في السماء ثم يعود مرة اخرى للعشب و من اجل تحقيق هذه الرحلة العظيمة فأنه بحاجة الى مركبة شعرية اكثر موسيقية من الشعر المرسل. الشكل الشعري الذي اخترعه و الذي يمكن ان يضم عدد كبير من المواضيع، المفردات و الصور الشعرية: "طبيعة بدون قيود بطاقة اصلية". هذه الطاقة تعطي الحياة لأغنيته.

—CM

سؤال

"احتفي بنفسي"—هكذا كان البيت الاول للنسخة الاولى لقصيدة "اغنية نفسي" و الذي لاحقا اضاف والت ويتمان عبارة "واغني نفسي". هل هذه الاضافة تغير من معنى القصيدة لديك؟ و لماذا باعتقادك قام والت ويتمان بهذا التغيير؟

اكتب تعليقك على صفحة الفيسبوك او اكتبه في صندوق التعليقات ادناه.

Languages and Sections